;

ما هو مفهوم الردع، وما مفهوم سلاح الردع؟

  • بواسطة: بابونج تاريخ النشر: الأحد، 24 نوفمبر 2019 آخر تحديث: الأربعاء، 10 أغسطس 2022
ما هو مفهوم الردع، وما مفهوم سلاح الردع؟

برز مفهوم الردع إبان الحرب الباردة، وارتبط بالمواجهة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية، وهو من المفاهيم الأساسية في العلوم العسكرية والاستراتيجية، ثم كان لسقوط الاتحاد السوفيتي عام 1991 وانتهاء الحرب الباردة تأثيراً كبيراً على البيئة الأمنية العالمية والنظام الدولي، حيث تبدلت نقاط القوة وتغير توازن القوى إذ تفردت الولايات المتحدة الأمريكية بالقطبية العالمية، فكان لذلك تأثيره الكبير على مفهوم الردع وتحوله كاستراتيجية من حالة الدفاع إلى الهجوم.

ولم يعد تلويحاً باستخدام القوة و إنما أصبح استخداماً حقيقياً للقوة، تمثل ذلك باستراتيجية الضربة الوقائية التي اتبعتها الولايات المتحدة الامريكية بعد الحرب الباردة، وتجسدت بشكلٍ كبيرٍ في فترة رئاسة جورج دبليو بوش، كما أكدتها وثيقة الأمن القومي الأمريكي عام 2002. فما هو مفهوم الردع؟ و ما المفارقة التي صنعتها الأسلحة النووية؟ وكيف تحول الردع من الدفاع إلى الهجوم؟

 

الردع تلويحٌ باستخدام القوة دون استخدامها

ينطوي مفهوم الردع على عدة معانٍ، فهو تلويحٌ باستخدام القوة ضد طرف آخر لمنعه من القيام بعملٍ يهدد مصالح الطرف الرادع، كما أنه منع دولة معادية من اتخاذ قرارٍ باستخدام أسلحتها، بصورة أعم منعها من العمل أو الرد إزاء موقفٍ معينٍ، عن طريق اتخاذ عدة إجراءات (مثل التلويح باستخدام القوة العسكرية) ما يشكل تهديداً كافياً للدولة التي تريد الإقدام على القيام بعملٍ ما.

إن الردع كسياسةٍ ينصرف إلى نقل موقفٍ معينٍ، أو نيةٍ إلى الخصم من أجل العدول عن فعل باشر به، أو الابتعاد عن نية القيام بفعل لا يرتضيه المُهَدِدْ، وهو كاستراتيجية يسعى إلى توظيف وسائل القوة عن طريق التلويح باستخدامها؛ لضمان أوضاعٍ لا يرغب الطرف الرادع أن تتغير، ذلك لأنها تتوافق وتنسجم مع أهداف سياسته العليا.

 

في أزمة الصواريخ عام 1961 تجلت استراتيجية الردع

هناك الكثير من المواقف على المستوى الدولي التي تكرس فيها استخدام استراتيجية الردع بشكلها القائم على التلويح باستخدام القوة لمنع الطرف الآخر من القيام بما يؤذي مصالح الطرف الرادع، ظهر ذلك في المواجهات بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية خلال الحرب الباردة، ومن أشهرها ما حصل أثناء أزمة الصواريخ الكوبية التي اندلعت عام 1961، فبعد فشل الولايات المتحدة الامريكية في إسقاط النظام الكوبي الحليف للاتحاد السوفيتي، شرعت الحكومة الكوبية بدعم من الاتحاد السوفيتي ببناء قواعد سرية لصواريخ نووية بعيدة المدى، كما أنها قادرة على ضرب معظم الأراضي الأمريكية، وذلك كردع للولايات المتحدة الأمريكية، كي لا تحاول التعدي على حلفاء الاتحاد السوفيتي ومن ثم التأثير على المصالح السوفيتية.

ردت الولايات المتحدة الأمريكية بنشر قواعد لصواريخ من نوع (IRBM) _صواريخ بالستية متوسطة وبعيدة المدى، حُملّت برؤوس نووية_ في بريطانيا وإيطاليا وتركيا، بذلك كانت الولايات المتحدة تملك قدرة الرد على الاتحاد السوفيتي بما يقارب 100 صاروخ ذي رأسٍ نووي، تصاعدت الأزمة وكانت من أشد المواجهات في الحرب الباردة، وأنذرت بحربٍ نووية بين الطرفين، لكنها انتهت بالحلول العقلانية التي جنبت الطرفين النتائج التدميرية، ويندرج ذلك ضمن مفهوم نظرية الألعاب (سنتحدث عنها في وقتٍ لاحق من هذا المقال).

كما تجلت استراتيجية الردع بما استخدمه كلا الطرفين ليهدد الآخر، فظهرت النتائج بتعهد الولايات المتحدة الأمريكية بعدم غزو كوبا بالإضافة إلى تفكيك القواعد الصاروخية في كل من تركيا وإيطاليا وبريطانيا، كما قام الاتحاد السوفيتي بتفكيك القواعد الصاروخية التي أقامها في كوبا ومن ثم نقلها إلى الاتحاد السوفيتي. تجلى مفهوم الردع أيضاً في اللهجة الخطابية التي جاءت على لسان الرئيس الأمريكي آنذاك (جون كيندي) في إحدى خطاباته عام 1961، إثر أزمة الصواريخ إذ قال: "ستكون سياسة هذه الأمة إزاء أي صواريخ نووية تنطلق من كوبا ضد أي دولة في النصف الغربي، هجوماً على الولايات المتحدة، وستكون ردة الفعل الانتقامية كاملة على الاتحاد السوفيتي".

 

مفهوم الردع يتقارب مع مفهوم نظرية الألعاب (Game Theory)

يمكن أن يفهم الردع على أنه علاقة تفاعلية بين خصمين يمتلكان قدراتٍ متكافئة نسبياً، بحيث يمكن لكل طرف أن يلحق المستوى ذاته من الأذى بالطرف الآخر، وفي الوقت ذاته يمتلكان قدراً كافياً من العقلانية، بحيث يتم حساب الربح والخسارة، فكل طرفٍ يعمل على درء مخاطر الحرب المحتملة، بالمحافظة على القوات والأسلحة في حالة تأهب كمي ونوعي، بالشكل الذي يقنع الطرف الآخر بأن أي عملٍ هجوميٍّ من قبله ستكون تكلفته أكبر من المكاسب التي يسعى إلى تحقيقها.

هذا ما ينطبق على الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي إبّان الحرب الباردة، وفي هذا السياق يتقارب مفهوم الردع مع مفهوم نظرية المباريات أو نظرية الألعاب، وهي نظرية تهتم بدراسة وتحليل تصرفات صناع القرار في حالات الصراع المختلفة، أو بعبارة أخرى تصف الكيفية التي يتصرف بها الناس العقلانيون، لانتهاج الخيارات الرشيدة في المواقف الصراعية، التي تحقق لهم أكبر قدر من المكاسب وتجنبهم قدر الإمكان الخسائر؛ ،عُرفت هذه النظرية عام 1944م واستخدمت في المجال الاقتصادي، إلا أنها أثبتت صلاحيتها في المجال السياسي، إذ عمل عددٌ من المفكرين، من بينهم هنري كاهن وبرنارد برودي، على تطويع هذه النظرية لاستخدام فرضياتها في الصراعات السياسية عامة، وفي مشكلات الحرب والسلام بصفة خاصة، وهي تعني في أبسط معانيها دراسة الاستراتيجيات التي يتبناها الأطراف في مواقف النزاع.

 

مستويات الردع وأساليبه

الردع التقليدي

يقوم الردع التقليدي على فكرة القدرة على تحقيق الانتصار في الحرب عند اندلاعها، وإنزال الهزيمة بقوات العدو وتدمير قدراته، بالإضافة إلى إمكانية احتلال أرضه، وفرض الإرادة السياسية بعد الانتصار عسكرياً عليه، ظهر هذا المستوى من الردع قبل التغير النوعي الذي طرأ على منظومة الأسل��ة التقليدية، والمتمثل بالثورة التي أحدثها ظهور السلاح النووي، فكل سلاحٍ جديدٍ وغير مألوفٍ يدخل أرض المعركة، أو قبل اندلاع القتال يمكن أن يحدث ردعاً، فاستخدام المنجنيق في الحرب لأول مرة شكل عامل ردع، وعندما اُكتشف البارود وبدأ استخدامه في المعارك شكل بدوره عامل ردعٍ فعال. ومع تطور الأسلحة تطور مستوى الردع وفاعليته، فاستخدام الدبابة في أرض المعركة لأول مرة في عام 1916 أحدث فارقاً نوعياً في الحرب، كذلك كان استخدام الغواصات من قبل ألمانيا في الحرب العالمية الأولى.

لكي يتحقق هذا المستوى من الردع، لابد من توافر القوة المتفوقة والقادرة على ممارسة التأثير الردعي، والتي تدخل في بنائها عدة مكوناتٍ، هي:

  1. التفوق في عنصر الكم البشري الموظف في القتال، أي التفوق في عدد المقاتلين الذين يشكلون جيش الدولة.
  2. التفوق في أسلحة القتال كسلاح المدفعية والدروع، وسلاح الطيران، لتأمين كثافة نيران وقوة تدمير يصعب تفاديها أو التفوق عليها.
  3. التفوق في مجال المناورة الميدانية، كتأمين عنصر المفاجأة أو المبادرة بالضربة الأولى وبهجومٍ واسع النطاق يستهدف مراكز قيادة العدو، ومفاصل تجمع قواته بالإضافة إلى ضرب طرق مواصلاته وخطوط إمداده.
  4. التفوق في مجال المناورة السياسية لتأمين جبهة واسعة من التحالفات العسكرية، تتجسد في تعدد القوى المتحالفة ضد العدو، بحيث يصعب عليه مواجهتها والانفتاح عليها.

الردع النووي

لقد أصبح السلاح النووي أساس الاستراتيجية العسكرية في القرن العشرين، خاصة بعد أن تحقق ما يسمى بتوازن الرعب النووي بين الكتلتين الغربية والشرقية منذ بداية الخمسينيات من القرن العشرين، حيث تولدت القناعة لدى الكتلتين المتنافستين آنذاك، وعلى حد سواء، بعدم جدوى الحرب لأنها ستكون عملية انتحارية مدمرة، ذلك لأن كلاً منهما يمتلك القدرة على الانتقام المكافئ إذا تلقى الضربة الأولى، إذ إنَّه في الردع التقليدي كانت الأطراف المتصارعة تستخدم الأسلحة التقليدية، كالطائرات والمدفعية والصواريخ القصيرة والمتوسطة وحتى بعيدة المدى وغيرها، لكن بات الأمر مختلفاً في عصر السلاح النووي، فالردع النووي يقتصر على التلويح باستخدام السلاح النووي سواء أكان هذا الاستخدام جزئياً أم كاملاً، محدوداً أم شاملاً، فالتطورات التقنية ربطت الردع بمعادلة جديدة هي المعادلة النووية.

الردع بعد اكتشاف انشطار الذرة.. إخضاع لشروط الرادع

تحدث وزير الدفاع الأمريكي الأسبق روبرت مكنمارا (Robert Mcnamara) طارحاً مسألة الأسلحة النووية واستثمارها بفاعلية لمواجهة التهديد ومن دون تحديد، لإشعار الخصم بالقدرة على إلحاق أكبر قدر من الدمار ، فقال: "إنَّ الردع النووي هو التدمير الأكيد في ظل امتلاك القدرة الفعلية على هذا التدمير، ولابد من أن تكون هذه القدرة مقنعة".

يطرح المفكر الفرنسي جان غيتون (Jean Guiten) تعريفاً آخر للردع النووي من وجهة النظر الدفاعية، فيقول: "إنَّ الردع النووي هو منع الطرف الآخر من مهاجمتنا"، ويؤكد أن "الردع النووي يختلف عن الردع التقليدي الذي سبق عصر السلاح النووي، ويوضح ذلك من خلال الهدف، فقد كان هدف الردع قبل اكتشاف إمكانات انشطار الذرة، هو إجبار الطرف الآخر على الخضوع لشروطنا، أما بعد اكتشاف ذلك فقد أصبح الهدف منع الطرف الآخر من مهاجمتنا".

من جهة أخرى تقوم استراتيجية الردع النووي قبل كل شيء على المناورة باستخدام السلاح النووي، هذه المناورة تجعل مستوى الشك بمستوى العتبة النووية ممكناً، الأمر الذي يجعل الخصم في وضع المُرتَدِع عن قناعة موضوعية، أو بالقوة ، ويقوم معيار الردع النووي على جانبين أساسيين:

  • الأول: القدرة على تدمير المراكز العسكرية، والسكنية، والاقتصادية، والمدنية ذات الأهمية.
  • الثاني: القدرة على امتصاص الضربة النووية المعادلة عبر حماية المراكز البشرية والإنتاجية والعسكرية الخاصة والعامة.
 

الردع والتحديات الأمنية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة

برزت عدة تحديات أمنية جديدة بعد انتهاء الحرب الباردة كان لها تأثير على الردع كمفهوم وكاستراتيجية، أهم هذه التحديات الأمنية:

الأسلحة النووية الطليقة

عبارةٌ عن موادٍ سرقت وهربت من المنشآت والقواعد العسكرية في الاتحاد السوفييتي بعد انهياره وبيعت في السوق السوداء، وتشمل رؤوساً حربيةً، ومواداً انشطارية كاليورانيوم عالي التخصيب والبلوتونبوم القابل للاستخدام في الأسلحة النووية، وقد ازداد التهديد الأمني للأسلحة النووية الطليقة بعد أن اقترنت بظاهرة الإرهاب النووي، فلم تعد المسألة مقتصرة على إمكانية انتقال الأسلحة النووية إلى دول تسعى لامتلاك التقنية النووية بقدر ما صار الأمر متعلقاً باحتمال انتقال هذه الأسلحة إلى التنظيمات الإرهابية.

الحروب اللامتكافئة

تعني الحرب اللامتكافئة، الحرب التي يكون أحد طرفيها أضعف من الطرف الآخر من الناحية التنظيمية والقوة المادية، فيقوم فيها الطرف الضعيف بدراسة دقيقة لنقاط ضعف خصمه التي يمكن أن تلحق به خسارة كبيرة وتضعفه إذا قام باستهدافها. يقوم هذا النوع من الحروب على عدم الالتزام بعقيدة معينة بالقتال وإنما يبني الخصم أهدافه التي يريد تحقيقها على الظروف التي تولد بالمصادفة، ما يجعل التنبؤ المسبق بأعماله أمراً صعباً، والحرب اللامتكافئة لاتضع خطاً فاصلاً بين الحرب والسلم، وتتخذ من الدول الفاشلة مقراً لها وقد اتسع نطاقها ليشمل العالم كله.

فكان لهذه التحديات الأمنية التي تمثلت بالحروب اللامتكافئة والأسلحة النووية الطليقة تأثيراً على التحول في استراتيجية الردع، فكيف يمكن للردع بمفهومه القائم على تهديد الخصم لإبعاده عن القيام بعملٍ لا يرتضيه الطرف الرادع أن يؤتي ثماره في ظل تهديدات لا يمكن ضبطها أو التعامل معها بالطريقة المشابهة للتعامل مع الدول، وكيف أصبح الردع بتحوله من الدفاع إلى الهجوم في ظل هذه التهديدات؟

 

الردع بعد انتهاء الحرب الباردة.. التحول من الدفاع إلى الهجوم

كان للبيئة الأمنية التي سادت بعد انتهاء الحرب الباردة، تأثيراً على استراتيجية الردع، _بما حملته من تهديداتٍ أمنيةٍ جديدة تمثلت بالثورة التكنولوجية، والنظام الدولي الجديد الذي حكمه قطبٌ واحدٌ هو الولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة إلى الحروب اللامتكافئة، والأسلحة النووية الطليقة_ فهل ستبقى ضمن الشكل التقليدي الذي بدأت عليه والمتمثل بالتلويح باستخدام القوة دون استخدامها؟ أم ستنتقل إلى الفعل الهجومي؟. أصبحت الإشكالية الأساسية تكمن في مدى قدرة الردع بمضمونه التقليدي القائم على التلويح باستخدام القوة، وكاستراتيجية تتبناها الدولة على مواجهة التحديات الأمنية المستجدة.

وقد كان ذلك من الأسباب الأساسية التي دفعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى تطوير استراتيجيتها العسكرية وفي إطارها عقيدتها العسكرية، عبر تبني استراتيجية الفعل الوقائي أو الضربة الوقائية أو الاستباقية (سنتحدث عنها بالتفصيل فيما بعد)، وهي استراتيجية بدأ العمل عليها منذ انتهاء الحرب الباردة، وتبلورت بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، هذا ما كان له انعكاس واضح على مفهوم الردع بإعطائه بعداً هجومياً، تمثل بتوجيه ضربة عسكرية للخصم، الذي قد يهدد مصالح الطرف الآخر، كما فعلت أمريكا عند ضرب العراق عام 2003.

المضمون الهجومي للردع

لا وجود لاستراتيجية عسكرية من دون عقيدة عسكرية، بمعنى أن العقيدة العسكرية هي التي تحدد مسالك الفعل الاستراتيجي، في هذا السياق يمكن القول أن العقيدة (Doctrine): كلمة لاتينية الأصل تعني تعاليم النظرية العلمية والفلسفية، وعند استخدامها في الجانب العسكري، فإنها تعني مجموعة التعاليم النظرية والعلمية والفلسفية المتعلقة بفن الحرب، والجوانب المرتبطة بها، كما يمكن أن توصف العقيدة العسكرية بأنها المذهب العسكري أو المذهب القتالي.

فالعقيدة العسكرية للدولة تجسد السياسة العسكرية المعبرة عن وجهات النظر الرسمية لهذه الدولة، والمتعلقة بالمسائل والقواعد الأساسية للصراع المسلح، والمتضمنة طبيعة الحرب من وجهة نظرها، وطرق إدارتها والأسس الجوهرية لإعداد البلاد والقوات المسلحة لها، بذلك تكون نتاجاً مركباً لأبحاث علمية ودراسات تاريخية تشغل مختلف الأنشطة الحيوية للدول ككل، بغرض خلق وتطوير وجهات النظر الرسمية في الصراع المسلح، كما ترتبط العقيدة العسكرية ارتباطاً وثيقاً بالعقيدة السياسية للدولة وبأيديولوجيتها وفلسفتها الاجتماعية والاقتصادية، لتكون بالتالي التعبير العسكري للنهج السياسي.

والعقيدة العسكرية هي: مجموعة الأفكار والأساليب التقنية والتكتيكية الخاصة بوضع الخطة الناجحة، لتحقيق هدف أساسي يتوخى مواجهة العدو، وتحقيق الانتصار عليه وفق خطة مبرمجة، وذات تكتيك منظم ومرن قابل للتغيرات الجزئية المستجيبة للضرورات العملياتية الطارئة داخل ساحة المعركة، أو ميدان المواجهة، من غير أن تكون هذه المرونة مؤثرة على الهدف الاستراتيجي الأساسي لخوض المعركة، أو على المحاور الجوهرية في تقنية الحرب.

وبالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية فإن العقيدة العسكرية لا تخرج عن مقتضيات استراتيجيتها العسكرية ومتطلباتها، هذه الاستراتيجية التي تمت إعادة صياغتها لتتناسب مع البيئة الأمنية المغايرة لمرحلة ما بعد الحرب الباردة، وما حملته هذه البيئة من مهددات أمنية مستجدة، لم تعد استراتيجية الردع التقليدية، التي درج العمل بها لأكثر من أربعين عاماً، كافية لمواجهتها.

تمت إعادة هيكلة العقيدة العسكرية الأمريكية في ظل متغيرين أساسيين:

  1. الثورة في الشؤون العسكرية، وما فرضه ذلك من ضرورة الإفادة من منجزات الثورة العلمية والتكنولوجية في الميدان العسكري، من حيث تطوير الكفاءة القتالية للأسلحة، بخاصة الجوية منها، عبر توسيع مداها القتالي المؤثر، وزيادة قدرتها التدميرية لتطال أهدافاً استراتيجية خارج نطاق النشاط الميداني أو التعبوي للقوات المتحاربة، وتطبيق مبدأ الاشتباك الآمن.
  2. إدخال استراتيجية الضربة الوقائية، نظراً لما يحققه ذلك من القدرة على إجهاض النوايا العدوانية للخصم قبل أن تتحول إلى فعل حقيقي.
 

الردع الاعتراضي والضربة الوقائية في الاستراتيجية الأمريكية

يقصد بالردع الاعتراضي، الانتقال إلى فعلٍ هجومي ضد الطرف الذي لم يستجب لدى ردعه أول مرة عن طريق تهديده، لذا يقترب الردع الاعتراضي من مفهوم الضربة الوقائية التي تعني القيام بعمل لصد وإسكات وتدمير أي تهديد محتمل لم تبرز عوامل تنفيذه والقيام به بعد، كما تعني توجيه ضربة قاضية لقوات العدو في قواعدها ومراكزها، للحيلولة دون تحويلها إلى خطر هجومي يهدد سلامة القوات التي عليها أن تأخذ زمام المبادرة لتكون البادئة بتسديد الضربة، هذا الاصطلاح شائع في الاستراتيجية العسكرية الحديثة، لاسيما في صدد تدمير الأسلحة النووية لدى الدول الكبرى، ومن الجدير بالذكر أن استراتيجية الضربة الوقائية قد تم الإعداد لها منذ انتهاء الحرب الباردة.

وثيقة بول ولفو فيتز

أعد (بول ولفو فيتز) عام 1992 عضوٌ في تيار المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأمريكية، وثيقةً حملت عنوان "إرشادات في السياسة الدفاعية"، إذ ركزت هذه الوثيقة على الطابع الوقائي لاستخدام الولايات المتحدة للقوة العسكرية من جانبها وحدها، من أجل تغيير الأنظمة في الدول التي لا تروق لها، ومع تولي "جورج دبليو بوش" الحكم في عام 2000، قرب بدوره المحافظين الجدد إلى المواقع المفصلية في وزارتي الدفاع والخارجية، وجاءت أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، لتشكل بدورها عامل دفع قوي باتجاه تبني استراتيجية الفعل الوقائي رسمياً في وثيقة الأمن القومي لعام 2002.

تقوم استراتيجية الضربة الوقائية على قاعدتين أساسيتين

  • الأولى: المباغتة دون انتظار الأدلة أو الوقائع، في هذا الإطار يقول وزير الدفاع الأمريكي الأسبق دونالد رامسفيلد: "لا يمكن انتظار الدليل حتى يتم التحرك ضد الجماعات الإرهابية، أو ضد الدول التي تمتلك الأسلحة الكيميائية والبيولوجية والنووية".
  • الثانية: لكي تكون الضربات الوقائية فاعلة، فإنها يجب أن توجه قبل نشوب الأزمة المعنية، حتى تدمر أي مخزون نووي -تكتيكي- تقليدي للعدو، والحيلولة دون استخدامه. بمعنى آخر إن الضربة الوقائية تستند إلى المباغتة دون انتظار الأدلة أو الوقائع.

المسافة بين الردع والضربة الوقائية

لدى مقاربة استراتيجية الفعل الوقائي بالردع الاعتراضي، يتضح أن هناك عدة نقاط أو عناصر تتقارب فيها الضربة الوقائية من الردع الاعتراضي. فالأصل في علاقة القوة استخدام الردع من قبل طرف يمتلك القدرة والإمكانية على إلحاق الأذى، وترتيب القصاص حيال طرف آخر يشكل تهديداً مقابلاً، ومن المعروف أن من أهم مقومات نجاح الردع أن تكون رسالة الردع مفهومة ومدرَكة من قبل الطرف الآخر أو المراد ردعه، فإذا ما فشل الطرف الرادع في إيصال تلك الرسالة فإن الردع يفقد قيمته، فلابد للطرف الرادع عندئذ من اللجوء إلى الاستباق كي يعيد مصداقية ردعه المطلوب.

ومن المبادئ الأساسية التي تقوم عليها استراتيجية الفعل الوقائي، وتقترب من الردع الاعتراضي أيضاً "فكرة الردع المبكر"، إذ أنها تخلق قناعة لدى الخصوم القائمين أو المحتملين بأن أي عمل يمكن أن يقدموا عليه ويمس الولايات المتحدة ويهدد مصالحها الحيوية في الخارج، سوف يواجه بضربات وقائية ومن دون سابق إنذار، هذا يعني أن الولايات المتحدة ستعمل على تغيير أوضاعها من النمط الساكن إلى النمط الاعتراضي بالهجوم، عبر توجيه ضربات وقائية بهدف تأمين الدفاع عن النفس، وحماية مصالحها، بالتالي العمل على لجم نوايا الخصوم قبل أن تتحول هذه النوايا إلى أفعال.

استراتيجية الردع أقل عمقاً من استراتيجية الضربة الوقائية

من الجدير ذكره أن مضمون الاستراتيجية الوقائية يحوي آليات ووسائل لتحقيق أهدافها أعمق من آليات الردع، لذا فإن الاستراتيجيين يعتبرون أن استراتيجية الفعل الوقائي أخطر من الردع الاعتراضي، لاسيما في ظل ما أكدته وثيقة الأمن القومي الأمريكي لعام 2002 عن تبني الولايات المتحدة لسياسة الحرب الوقائية، التي تقوم على أساس مهاجمة الأعداء المحتملين دون استفزاز أو مبرر، وهذا ما أكده الرئيس الأمريكي السابق (جورج دبليو بوش) عندما قال: "ستقوم الولايات المتحدة بالتحرك ضد مثل هذه التهديدات الناشئة قبل أن تتشكل بالكامل، إن منطق الدفاع عن النفس يستدعي قيام أمريكا بالتحرك ضد الأخطار قبل أن تصبح أخطاراً حقيقية".

يطلق على استراتيجية الضربة الوقائية اسم "الردع المبكر" القائم على الهجوم المباغت، إذ يعلق المحلل العسكري الأمريكي ويليام أركين (Weleam Arken) على الفعل الوقائي، قائلاً: "لن يكون أي هدف على السطح أو في الفضاء منيعاً على الهجوم الأمريكي. إذ يمكن للولايات المتحدة أن تضرب أينما ومتى وكيفما رأت ضرورة لذلك، وستكون أجوائُها وأراضيها محميةً بشبكة صواريخ دفاعية، وسيكون العالم بأسره تحت رحمة هجوم الولايات المتحدة الأمريكية متى شاءت، وبدون سابق إنذار أو ذريعة مقبولة، بل من المحتمل أن يتم تطوير خطط أكثر طموحاً، وصولاً لاستخدام القوة العسكرية من أجل الحد من أي تهديد مُخترع أو مُتخيل".

الخلاصة

  • انطوى مفهوم الردع على عدة معانٍ، فهو تلويحٌ باستخدام القوة، لمنع العدو من القيام بعملٍ يهدد مصالح الطرف الرادع، كما أنه نقل موقفٍ معينٍ إلى طرفٍ آخر لمنعه من القيام بعملٍ لا يرتضيه الطرف الرادع.
  • يتقارب مفهوم الردع مع مفهوم نظرية المباريات التي ظهرت عام 1944، من حيث حساب الربح والخسارة بين طرفين متكافئين بالقوة والإمكانيات، واللجوء إلى المواقف الرشيدة التي تجنب الطرفين الصدام المباشر.
  • استمر الردع بشكله التقليدي القائم على استخدام القوة ضد الخصوم، والانتصار بالحرب وفرض الإرادة السياسية على الخصم، حتى ظهر السلاح النووي في خمسينات القرن الماضي فقلب معادلة الردع وقصرها على التلويح باستخدام الأسلحة النووية استخداماً كاملاَ أو محدداً أو شاملاً.
  • تغيرت استراتيجية الردع، فتحولت من الدفاع إلى الهجوم، لما طرأ من تغيراتٍ على البيئة الأمنية بعد انتهاء الحرب الباردة.
  • يتقارب مفهوم الردع مع مفهوم الضربة الوقائية، من حيث توجيه ضربة للخصم في حال عدم استجابته عند ردعه أول مرة.