;

ما هي الاستراتيجية؟

  • بواسطة: بابونج تاريخ النشر: الأحد، 24 نوفمبر 2019 آخر تحديث: الأحد، 06 فبراير 2022
ما هي الاستراتيجية؟

إن الاستراتيجية كمفهوم تعد من أكثر المفاهيم التي أثارت جدلاً في ميدان السياسة، ولا سيما الاختلاف حول حقيقة المعنى الذي يمكن أن تستخدم في نطاقه، كما أنها أصبحت تستخدم في ميادين مختلفة، على الرغم من ولادة هذا المفهوم وتطوره في العلم العسكري، إذ كان يشير في بداياته إلى فن إدارة الجيوش في المعارك أو حتى فن إدارة الحروب بحد ذاتها، ذلك من حيث القدرة على تحقيق الهدف الذي تصبو إليه الدولة من الحرب.

بالتالي هو نفسه الهدف الذي يدور في نطاقه هدف تحقيق سلطة وقوة الدولة، بالطبع هو ليس المعنى الشامل للاستراتيجية، لأن مفهوم القوة لا يقتصر فقط على الفعل العسكري وإنما القوة هي تكامل بين مجموعة عناصر سياسية واقتصادية واجتماعية..الخ، فما مفهوم الاستراتيجية، وكيف ولد؟ وما المفهوم الأشمل للاستراتيجية؟

الاستراتيجية مفهوم ولد في ميدان العلم العسكري

إن الاستراتيجية كلمة مشتقة من اليونانية (Strato)، بمعنى جيش أو حشد، ومن مشتقات هذه الكلمة (Stratego) التي تعني فن القيادة، ومن مشتقاتها أيضاً (Stratagem) التي تعني الخدعة الحربية.

وقد ألف القائد الروماني"سيكستوس اليونيس فرو نتيسنوس" كتاباً عام 100 ميلادي بعنوان (Strategmaton)، جمع فيه الخدع العسكرية الناجحة التي قام بها القادة السابقون، ومن بين ما أورده من خدع عسكرية؛ الخدعة التي تقوم على تضليل العدو عن طريق تنفيذ مخطط غير ذلك المعلن، كأن يعلن القائد العسكري عن موعد للهجوم ثم ينفذ الهجوم في موعدٍ آخر، أو أن يحدد مكان مفضّل للاشتباك العسكري، إلا أنه ينتقي مكاناً آخر لضمان عنصر المباغتة، والملاحظ أن كلمة استراتيجية لم تكن مستخدمة حتى نهاية القرن الثامن عشر، وكان الوصف المستخدم لوصف إدارة الحرب هو فن الفروسية.

الاستراتيجية بمعنى فن الحرب

في الفترة الممتدة من عام 1500 ميلادي وحتى عام 1750، استبعدت كلمة الفروسية لا سيما عند المفكرين الذين برزوا في تلك الفترة، و منهم الكاتب الإيطالي نيقولا ميكافيللي (Niccolò Machiavelli)، وفريدريك الكبير (Frederick the Great)؛ (ملك بروسيا الذي عاش بين عامي 712 و 1786، واشتهر بدهائه في الحروب)، واستخدم كلٌّ منهما مصطلح فن الحرب للتعبير عن مصطلح إدارة الحرب أو الاستراتيجية.

الاستراتيجية من وجهة نظر كلاوس فيتز

يحدد الجنرال والمفكر البروسي كلاوس فيتز (Clausewitz) مفهوم الاستراتيجية بأنه؛ استخدام الاشتباك كوسيلة للوصول إلى غايات الحرب أو الأهداف التي شنت من أجلها الحرب، وهذا يعني أن على الاستراتيجية أن تحدد هدفاً يتلاءم مع غرضية الحرب، مما يفرض على الاستراتيجية أن تضع خطة الحرب وتضع وفقاً لها جملة أعمال أو تحرّكات تقود إلى تحقيقها، أما فوندر جولتز (Funder Joltz) (كاتب ومفكر عسكري بروسي)، فيرى أن الاستراتيجية تعني: اتخاذ الإجراءات ذات الطبيعة العامة بالنسبة لمسرح الحرب.

الاستراتيجية في القرنين 18 و 19

كان لدى مفكري ومنظري القرنين التاسع عشر والثامن عشر (لا سيما كما ذكرنا، ميكافيللي وكلاوزفيتز)؛ منظوراً إلى الاستراتيجية على أنها القوة العسكرية التي تحقق بها الدولة أهدافها، وما جعل أولئك المفكرين أو السياسيين يقصرون الاستراتيجية على ذلك المفهوم الضيّق هي حالة المجتمعات والدول في تلك الآونة، وهي حالة قائمة على الصراع والاقتتال لتحقيق أهداف الدولة.

كما ارتبط ذلك وفق ما ذكرنا؛ بولادة مفهوم الاستراتيجية وأصله العسكري لدى الإغريق، وفي تلك الفترة (القرنيين الثامن والتاسع عشر) كانت الدول الأوروبية تعيش حروباً طاحنة لتحقيق الأهداف السياسية، فالحروب والصراعات المسلحة كانت هي الغالبة في رسم طبيعة العلاقة بين تلك الدول أكثر من أي نشاط آخر، ذلك جعل مفهوم الاستراتيجية يدور في نطاق الجانب العسكري، مع قصر القوة أيضاً على القوة العسكرية.

بوفر يوسع مفهوم الاستراتيجية.. فن استخدام القوة

يعرف الجنرال والمفكر الفرنسي أندريه بوفر (André Beaufre) الاستراتيجية بأنها: "فن استخدام القوة للوصول إلى هدف السياسة"، وهذا التعريف ينطوي على قدر كبير من الإدراك لحقيقة ومعنى الاستراتيجية، فهو لا يربط الهدف السياسي التي تسعى القوة إلى تحقيقه بالقوة العسكرية بمعنى أنه لم يقصد أن القوة العسكرية وحدها القادرة على تحقيق هدف السياسة، إنما قصد بالقوة جميع العناصر التي تتشكل منها وهي عناصر سياسية، واقتصادية، كذلك اجتماعية.

كما أن بوفر أراد بالقوة هنا أن يدل على قدرة الدولة في إنجاز الفعل المؤثر خارجياً عن طريق تظافر كل العوامل التي تسهم في بنائها، مادية كانت أم معنوية، فالقوة وفق هذا التعريف يراد بها جميع القدرات التي تكون بحوزة الدولة، بما فيها القدرات العسكرية حيث يكون بإمكانها تحقيق أهداف سياسية، وهي أهداف لا تتحقق بالضرورة عن طريق الوسائط العسكرية، بذلك يخرج بوفر من الإطار المحدد لتعريف الاستراتيجية، الذي يقصر الاستراتيجية على الجانب العسكري فقط.

الاستراتيجية أهداف ترتبط بالفعل والقدرة على تحقيقها

الاستراتيجية كلمة تستخدم للدلالة على الهدف الذي ينشده الفعل، فكل حركة أو فعل يتوخى تحقيق هدف معين يطلق عليه اسم استراتيجية، إلا أن هذه الأفعال والحركات التي تسعى إلى تحقيق أهداف محددة بحاجة إلى ضبط وتنسيق وتنظيم؛ أي أنها بحاجة إلى أن تنتظم وفق خطة وصولاً إلى الهدف المراد تحقيقه، فالأهداف لا تقتصر لكي تنجز على وجود الفعل وإنما تفترض وجود خطة أو خطط يستكمل بها الفعل مقوماته لتحقيق أهدافه.

لكن بلوغ الهدف لا يقتصر هو الآخر من الناحية العملية على التخطيط فقط، وإنما يفترض توفر الوسائل التي تعين عملية التخطيط وصولاً إلى الهدف، هذه العملية التي تجمع بين الخطط التي تنشد بلوغ الهدف أو الأهداف والوسائل المتاحة التي تعين على تحقيقها هي ما يطلق عليه الاستراتيجية، أي أن الاستراتيجية تجمع بين الهدف والوسيلة من خلال عملية التخطيط أي أن التخطيط يكون الحلقة التي تربط ما بين الهدف والوسيلة.

التخطيط الاستراتيجي.. فن تطويع واستخدام الوسيلة لتحقيق الهدف

عملية الجمع بين الهدف والوسيلة من خلال التخطيط تفترض توفر عنصر آخر لا يمكن إغفاله عند الشروع بالفعل الاستراتيجي وهو عنصر القدرة، أي القدرة على استخدام الوسائل لإنجاز أهداف معلومة، فالأهداف تبقى معطلة والوسائل غير ذات قيمة ما لم تتوفر القدرة على توظيف الوسائل لبلوغ الأهداف المراد تحقيقها، والقدرة على استخدام الوسيلة لإنجاز أهداف معلومة ينطوي على مهارة استخدامها أي فن استخدام الوسيلة، الذي يعني بمجمله فن تطويع الوسيلة لبلوغ الهدف أو المهارة في تكييف الوسيلة مع الهدف.

فكم من الدول التي تملك الوسائل ويكون لديها أهداف، إلا أنها تبقى عاجزة عن تأمينها بسبب غياب مهارتها في توظيف الوسائل التي بحوزتها لخدمة الأهداف التي تتطلع لإنجازها، بالمقابل هناك العديد من الدول تكون وسائلها محدودة نسبياً إلا أنها تستطيع تحقيق نسبة هامة من أهدافها، هذا يعود بدون شك إلى عنصر المهارة أو الفن في توظيف الوسائل والإمكانيات المتاحة وتكييفها بحيث تكون قادرة على تحقيق ما تحدده من أهداف.

الاستراتيجية لا تنفصل عن السياسة

إن الاستراتيجية كلمة تسري على جميع المواقف والحالات بغض النظر عن توصيفها فيما إذا كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو عسكرية، وهي ترتبط بالعقيدة السياسية والفلسفة الاقتصادية والاجتماعية التي تحكم المجتمع، على هذا فإن لكل دولة استراتيجية تعبر عن سياستها بكل مقوماتها الاقتصادية والاجتماعية، وبهذا تكون الاستراتيجية نابعة من السياسة وتابعة لها.

فالسياسة هي الوسيط الذي ينشأ فيه الفعل الاستراتيجي هدفاً وتخطيطاً ووسيلة فلا استراتيجية بدون سياسة تضبط إيقاعها وتقوِّم مسار حركتها وتعمل على تنظيم أدائها الهادف والمؤثر، والسياسة هي مجال تحديد الأهداف بحيث تندرج الاستراتيجية في إطارها وتعمل على إنجازها وإن كان الفكر الاستراتيجي يساهم في تحديد الأهداف، ذلك من خلال المعلومات والتحليلات والدراسات التي يقدمها الخبراء والفنيون للسياسيين، والتي يأخذها رجل السياسة بعين الاعتبار وتؤثر على تفكيره في اتخاذ القرارات.

الاستراتيجية خاضعة للسياسة

يحدد الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي ريمين آرون (Raymond Aron) العلاقة بين السياسي والاستراتيجي بقوله: "إن الفكر الاستراتيجي يتحدد بالمشكلات السياسية وإن الاستراتيجية تهتم بالوسائل وليس فقط بالأهداف، فتحديد الأهداف وإن كانت الاستراتيجية مسؤولة عن إنجازها إلا أنها وظيفة السياسي" (أي أن تحديدها يدخل في صلب اختصاصه)، أما الاستراتيجي فتتحدد مهامه ومسؤوليته في تحريك وتعبئة الموارد المختلفة والمتاحة لتحقيق هذه الأهداف دون أن تذهب إلى تحديد ماهية المصلحة القومية في موقف ما، هكذا فإن خضوع الاستراتيجية للسياسة هو أحد المبادئ المسلم بها في الفكر الاستراتيجي.

شروط وضع الاستراتيجية

يفترض وضع الاستراتيجية البحث عن أفضل الأساليب والطرق والأدوات من قبل السياسيين، لتحقيق الأهداف التي يريدونها، ويفترض وضع الاستراتيجية عدة شروط، هي:

  • وضوح الأهداف وتكاملها

لما كانت الاستراتيجية هي عملية اختيار أفضل الوسائط والوسائل لتحقيق أهداف الدولة على المستوى القومي، فإن هذه الأهداف يفترض أن تكون واضحة وسليمة وغير مبهمة، كما يجب أن تتسم الأهداف بالاتساق المنطقي وعدم التناقض في إطار الاستراتيجية الواحدة، أو بين الاستراتيجيات المختلفة في إطار المجتمع ككل.

  • واقعية الأهداف وحقيقتها

إن اختيار الأساليب الناجحة للوصول إلى الأهداف المطلوبة يستلزم وجود أهداف واقعية يمكن تحقيقها، ومن ثم أهمية تكافؤ القدرات والموارد مع الأهداف، وتثار في ذلك عمليات وضوح الأهداف وتقدير الاحتياجات اللازمة وتحديد الإمكانيات والقدرات والموارد المتاحة، ومقارنة الإمكانيات بالاحتياجات وتقييم احتمالات تحقيق الهدف بالإمكانيات المتاحة.

  • العقلانية والتخصص

بمعنى أن عملية وضع استراتيجية ما؛ هي عملية تتضمن اختبارات عقلانية في العلاقة بين الوسائل والأهداف، ويقصد بالعقلانية في هذا المجال عقلانية ذرائعية مبررة، أي أن عملية الاختيار من عدة وسائل وأساليب مختلفة تتم على أساس عقلاني يمكن حسابه والدفاع عنه وهو يتحدد بمدى فعالية هذه الأساليب في تحقيق الأهداف، فالعقلانية تنصرف إلى عملية اختيار الوسائل المؤدية إلى الأهداف وليس إلى تقييم ذاتها فقط، ومن ثم فإن العقلانية يقصد بها الدراسة العملية للواقع وللبدائل المختلفة والاختيار العلمي بين هذه البدائل، حيث تتضمن هذه العملية معرفة الأهداف ودراسة الأساليب البديلة لإنجازها وتحديد الكلفة النسبية لكل الأساليب ومقارنة الأساليب بعضها ببعض وتحديد الأسلوب أو مجموعة الأساليب المثلى.

  • الاستمرارية

تتصف الاستراتيجية أيضاً بالدوام والاستمرار؛ فطالما أن هذه الأهداف التي تسعى إليها الدولة هي لا نهائية ومستمرة باستمرار وجودها؛ فإن عملية التخطيط الاستراتيجي تتصف هي الأخرى بالاستمرارية، لأن الاستراتيجية لا تخاطب المشاكل اليومية وإنما تتضمن عدة مراحل تقوم كل واحدة منها على ما سبقها، هذا يتطلب وضوح المراحل في ذهن المفكر الاستراتيجي من ناحية وضرورة الاستمرار من ناحية ثانية.

أخيراً.. إن مفهوم الاستراتيجية الذي ولد العلوم العسكرية وتطور في القرنين الثامن والتاسع عشر بسبب طبيعة المجتمعات والعلاقات القائمة على الحروب والقتال، كان يُقصر على الجانب العسكري من خلال ربط الاستراتيجية بالقوة وقصر مفهوم القوة على القوة العسكرية أيضاً، بيد أن هذا المفهوم توسع فيما بعد من حيث توسيع مفاهيم ارتبط بها كمفهوم القوة (إذ أصبحت القوة عبارة عن تكامل كل الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية بالإضافة إلى العسكرية)، كما أن الاستراتيجية بمفهومها العام هي عبارة عن أهداف تنشدها الأفعال التي تتطلب قدرة ومهارة في تحقيقها، بذلك فإن مفهوم الاستراتيجية لم يعد مقتصراً على الجانب العسكري كما كان في بداياته الأولى.

اشترك في قناة رائج على واتس آب لمتعة الترفيه