وداعًا زياد الرحباني.. صاحب البصمة الاستثنائية في الأغنية اللبنانية

  • تاريخ النشر: السبت، 26 يوليو 2025 زمن القراءة: 3 دقائق قراءة
مقالات ذات صلة
تفاصيل اللحظات الأخيرة في حياة زياد الرحباني.. الطب الشرعي يكشف السبب الحقيقي لوفاته
كلمات أغنية عندي صاحبة آمال ماهر
كلمات أغنية ما تقول لنا صاحب مكتوبة كاملة

في لحظة توقفت فيها بيروت عن التنفس، وغرقت الأرصفة في صمت يشبه النوتة الغائبة عن لحنٍ مكتمل، رحل زياد الرحباني، الصوت الذي لم يكن يغني فقط، بل يفكر، ويضحك، ويتمرّد، ويصرخ في وجه العالم. برحيله، تطوى صفحة فريدة من الذاكرة الموسيقية العربية، ذلك الصوت الذي كان نغمةً حادة في زمنٍ أراد الكثيرون له أن يبقى ساكنًا.

زياد، ابن العبقريّة الرحبانيّة والأرض الجبلية التي غنّت للحب والمقاومة معًا، لم يكن مجرد موسيقي أو شاعر أو كاتب مسرحي، بل كان ظاهرة فنية متكاملة.

رجلٌ كتب الموسيقى بلغة الشارع، ورفع الشعر إلى خشبة المسرح، وحوّل المسرح إلى مرآة صادقة لمجتمعه، بكل تناقضاته وسخريته وآلامه.

بداية زياد الرحباني

وُلد زياد الرحباني عام 1956 في أحضان عائلة فنية استثنائية، حيث كانت فيروز أمه، وعاصي الرحباني والده، ورغم هذا الإرث الضخم، لم يركن زياد إليه، بل تمرّد عليه، وخلق طريقه الخاص.

بدأ رحلته الفنية في عمر مبكر، عندما قدّم أولى مسرحياته الساخرة "سهرية" عام 1973، وهو لا يزال في السابعة عشرة من عمره.

بعدها توالت الأعمال التي صنعت له اسمًا لا يُشبه أحدًا، من "نزل السرور"، و"بالنسبة لبكرا شو؟"، و"فيلم أميركي طويل"، إلى "بخصوص الكرامة والشعب العنيد".

هذه الأعمال لم تكن مجرد عروض مسرحية، بل وثائق اجتماعية سياسية لزمنٍ مضطرب، ألبسها زياد موسيقاه الفريدة، ونكهته الخاصة من السخرية والوجع.

زياد وفيروز علاقة حب موسيقية

من أبرز فصول حياته الفنية كانت شراكته الموسيقية مع والدته، السيدة فيروز، جارة القمر وصوت لبنان الدائم. ورغم العلاقة الشخصية المعقدة بينهما، إلا أن تعاونهما الفني كان استثنائيًا بكل المقاييس. زياد لم يكن مجرد ملحن لأغاني فيروز، بل كان يعيد تقديمها للعالم من زاوية أكثر عمقًا وجرأة، كأنّ فيروز في عهدته صارت تغني بلسان الشارع، دون أن تفقد هالتها السماوية.

من أشهر ما قدّمه لها:

  • "كيفك إنت؟"
  • "أنا مش كافر"
  • "قال قايل"
  • "ورقو الأصفر"
  • "سألوني الناس"
  • "بكتب اسمك يا حبيبي" 

أغاني كانت أقرب إلى حوارات داخلية، عارية من التصنّع، تنقل مشاعر الخيبة والعشق والاغتراب، وتفتح نوافذ فيروزية جديدة على مشهد سياسي واجتماعي كان يغلي.

موسيقى زياد الرحباني ما بين الحزن والتمرد

ما يميّز موسيقى زياد الرحباني أنها لا تُسمع فقط، بل تُفهم وتُعاش. لم يكن يخجل من دمج الجاز بالموسيقى الشرقية، أو إدخال أصوات الضحك والبكاء إلى مسرحياته. كانت كل نغمة يقولها بمثابة موقف، وكل صمت يكتبه يحمل رسالة. لم يكن فنانًا يسعى لإرضاء الجميع، بل كان صوتًا حرًا، مشاكسًا، منحازًا للفقراء والمهمّشين، يكتب لهم ويغني عنهم وبأصواتهم.

اليوم، برحيل زياد، يشعر لبنان والعالم العربي بفقدان نبض موسيقي وفكري لا يتكرر. لقد كان صوتًا يصعب تصنيفه؛ لا هو تقليدي ولا ثوري بمعناه الكلاسيكي، بل كان نسيجًا فنيًا مستقلًا، متفردًا، متناقضًا أحيانًا، لكنه صادق دائمًا.

في زمنٍ تتكاثر فيه الأصوات وتقل فيه المعاني، كان زياد الرحباني آخر من يحمل النغمة الصادقة في وجه الضجيج. رحل وهو لا يزال حاضرًا في كل أغنية نسمعها له، في كل عبارة ساخرة كتبها، في كل توزيع موسيقي حفره في ذاكرتنا.

وداعًا زياد، يا من علمتنا أن الحزن يمكن أن يكون لحنًا، وأن السخرية مقاومة، وأن الفن أصدق من السياسة أحيانًا. رحلت، لكن بيروت ستظل تسمع صوتك في زواريبها، في مقاهيها، وفي ليلها الذي يفتقد الآن آخر عازفيه الحقيقيين.